ثقافة مهرجان كان من "المسابقة الرسمية" إلى قسم "نظرة ما": بين وحشية السياسة و رقّة العلاقات البشرية
بقلم الناقد طاهر الشيخاوي
مع الأسف لم تكن المسابقة الرسمية، هذه السنة، حافلة بأعمال لافتة فنيّا. الكلّ يعلم أنّ لمن يبحث عن الإبداع له حظوظ أوسع في الأقسام الموازية. إلا القليل، منها الفيلم الوثائقي لعلي العباسي، مخرج دانماركي من أصول إيرانية، له باع في المهرجانات، تحصّل على جائزة في قسم "نظرة ما" سنة 2018 بشريط The border.
يتناول شريطه الوثائقي The apprentice السنوات الأولى من مسيرة رونالد ترامب. عمل مثير، ثمرةُ جُهد مشترك مع غبريال شيرمان الكاتب والإعلامي الأمريكي حول المراحل الأولى من حياة الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية والمرشح للولاية القادمة. إلى جانب دقّة البحث وجدّية التوثيق، يتّسم العمل بمعالجته السينمائية للعلاقة التي ربطت رجل الأعمال ترامب بالمحامي المشهور روي كوهن. تأسست البنية الدرامية على تطوّر العلاقة بين الرجلين وانعكاسها. قدّم ترامب نفسه للمحامي ذائع الصيت، كالتلميذ الخجول، متسوّلا التدخل لدى أصحاب السلطة لإعانته على إنجاز مشاريعه وتمتيعه بامتيازات غير قانونية.
استجاب المحامي لرغبته بسرعة وبنجاعة فارتفع شأنه. ثم انقلب تدريجيا على صاحب الفضل إلى حدّ الإهانة. قد يكون تحوّل معاملة ترامب مع كوهن السبب الرئيسي في اهتمام علي عباسي بالموضوع. فمسألة الوحش أساسية لديه. لذلك بدا الشريط روائيا بالرغم من طبيعته الوثائقية. في كلمة تقديمه للفيلم أكّد تيري فريمو على آنيته وتزامنه مع الأحداث، لكن السؤال هو كيف سيكون تأثيره على الرأي العام ؟ هل من المتأكد أنه لا يخدم بطريقة ما رونالد ترامب ؟ هذا ما سوف تبيّنه الأشهر القادمة.
أمّا فيما يتعلق بقسم "نظرة ما" فلا بد من الإقرار بأنّه يتضمّن أعمالا ذات مستوى عال نذكر منها على سبيل المثال "لما ينكسر النور" (الترجمة حرفية للعنوان الأنجليزي) لرونار رونارسون، المخرج الايسلندي القاطن ببولندا.
يصعب رفض الشعور الذي ينتابك طوال الشريط، شعور بالتعاطف مع الشخصيات وانخراط تام في الاقتراح السينمائي المعروض.
أونا طالبة تربطها علاقة عشق مع ديدي، رفيقها في الدراسة بمعهد الفنون. لكن ديدي مرتبط عاطفيا بكلارا طالبة أخرى في نفس المعهد. نَفهم (وطريقة السّرد تجعلنا نرجو) أنه يتهيأ لوضع حدّ لعلاقته مع كلارا للارتباط نهائيا بأونا. الموضوع بسيط ومعتاد لكن طريقة معالجته طريفة جدّا بعيدة عن السطحيّة واللعب على مشاعر المتفرج المتلصّص.
أوّلا من حيث السيناريو، فمباشرة بعد اللحظات الأولى التي نتعرف فيها على قوّة الروابط العاطفية بين العاشقين يطرأ حادث أليم أدى بحياة الشاب. من هنا تبدأ القصّة : كيف تعيش أونا هذا الحدث وتتصرف في الألم والحال أنها مجبرة على المشاركة في كل اللقاءات التي تمّت بين أصدقائها بعد موت عشيقها وبحضور صديقته كلارا التي تجهل ما يعلمه المشاهد.
كيف ستتصرف في بداية قصّةٍ لم تكتمل بدايتُها ؟ تنزعج كثيرا من تعاطف أصدقائها الحصري مع العشيقة الأولى ومواساتهم لها فقط كما لو لم يحدث شيء بينها وبين المفقود. ثم كيف يمكنها أخلاقيا وإنسانيا كبت شعور التعاطف مع كلارا. هنا يكمن الرهان الشريط الأساسي : في التعبير عن هذا اللبس في العلاقات البشرية من خلال حدث بسيط ملأ الأفلام الميلودرامية والكوميديا العاطفية والمسلسلات التلفيزيونية. رقّة ولطف وحكمة غير معهودة في السينما...
-الصورة الرئيسية من فيلم "لما ينكسر النور"